محاور الدرس: دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا إشكالية وجود الغيرإشكالية معرفة الغير وجوه الغير: الصداقة والغرابة
دلالات: الغير ذلك الأنا الذي ليس أنا
الإنسان كائن اجتماعي، واجتماعيته هذه تعني وتقتضي التفاعل مع الآخرين أي مع الغير. وإذا كان تفاعلي مع الأشياء وتمييز نفسي عنها لايكاد يطرح مشكلة، فالأمر خلاف ذلك فيما يخص الغير، لأنه ببساطة ذلك الشبيه المختلف : إنه شبيهي مادام يشاطرني كثيرا من الصفات العامة (الفيزيولوجية ،النفسية، السلوكية...)، لكنه لايفتأ يؤكد – ضمن هذا التشابه – اختلافه عني في مؤهلاته واختياراته ورغباته ومشاريعه ...
تقع هذه الإزدواجية في صلب أغلب الإشكالات الفلسفية للغير، فلقد عرفه سارتر: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟
لنطرح قضية الغير بتجريد أقل: كيف يتبدى الغير لذاتي؟ كيف أعرف الغير؟ وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ إذا انطلقت من افتراض معرفتي لذاتي ولحالاتي النفسية الشعورية بواسطة إدراك ووعي باطني مباشر، فكيف السبيل لمعرفة الغير؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟
ولنطرح القضية بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !
إشكالية وجود الغير
عرف سارتر الغير: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ماعلاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط ويتوفق وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟
تنبيه: يمكن استثمار معطيات هذاالمحور لمعالجة قضايا واشكاليات عديدة: الغير كأنا آخر- مفهوم الوعي أو الذات المفكرة- علاقة أوضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا- الوجود والإعتراف بالوجود- مكانة الغير في عالم الذات ...
يلاحظ أن وجود الغير يمثل بالنسبة للحس المشترك قضية بديهية مسلما بها. وكلما تماهينا مع الحس المشترك بداخلنا وافتقدنا الخاصية النقدية الإستفزازية للتفكير الفلسفي ،إلا وصعب علينا إدراك جوهر اشكالية وجود الغير ومكامن الصعوبة والتعقيد بداخلها. وفي الواقع فهذه اشكالية حديثة في تاريخ الفلسفة نفسه. وقد طرحت نفسها بحدة انطلاقا من الفلسفة الديكارتية: ذلك أن اكتشاف الذات كمصدر للحقيقة ومرجع للحكم قد فجر – ليس فقط اشكالية وجود العالم والأشياء – بل وإشكالية وجود الذوات الأخرى (الغير) أيضا: من المعروف أن إثبات وجود الذات أو مايعرف بالكوجيطو يأتي تتويجا لمغامرة الشك الشامل. إن الشك هو الحقيقة الأولى التي لانستطيع الشك فيها دون أن نؤكدها،والشك يكشف اذن عن وجود الذات وطبيعتها المفكرة. ولكن بما ان الكوجيطو ترجمة لوعي الذات بنشاطها المفكر وعيا مباشرا بواسطة حدس باطني، فهل يمكن استعمال الكوجيطو في غير ضمير المتكلم واستغلال قوته الإثباتية في إثبات وجود الغير كذات وأنا واعية؟ إن ديكارت وهو ملتزم بالحذر المنهجي وبأن لا يعلن قضية على أنها حق قبل اجتيازها اختبار الشك الصارم، يعلن أنه عندما ينظر من النافذة إلى الأسفل يحكم بأنه يرى أناسا يسيرون في الشارع رغم أنه لايدرك في الحقيقة غير قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآلات تحركها لوالب !! نص ديكارت : كيف يمكن لوعيي أن يدرك وجود وعي آخر!؟
لا اعجب كتيرا حين ألاحظ ما في ادرا كي من ضعف وميل يجعلانه عرضة للخطأ من غير وعي مني. ذلك لآن الالفاظ تصدني [عن إدراك الحقيقة]حتى ولو استغنيت عنها وطفقت اجيل هذا كله في ذهني صامتا. العبارات الشائعة المتداولة تكاد تخدعني: فنحن نقول باننا نرى الشمعة ذاتها حين تكون امامنا ولا نقول باننا نحكم» انها هي الشمعة عينها، لأن لها لون وشكل الشمعة ذاتيهما وهكذا نميل عادة إلى الاستنتاج باننا نعرف الشمعة بالعينين وليس بواسطة فحص عقلي. وكذلك لو نظرت بالمصادفة من النافذة وشاهدت رجالا يسيرون في الشارع لقلت عند رؤيتهم بأني ارى رجالا بعينهم ، مثلما قلت اني أرى شمعة بعينها . ولكن هل ارى في الواقع من النافذة سوى قبعات ومعاطف قد تكون غطاءا لآت صناعية تحركها لوالب ؟ ومع ذلك احكم انهم أناس !اذن فأنا ادرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب أنني اراه بعيني المصدر: ديكارت ، ـاملات ميتافيزيقية، الترجمة العربية ، كمال الحاج ، عويدات 1982 ص 82 (بتصرف) |
وبالمثل فإن الإعلان عن وجود الغير كذات لايمكن النظر إليه إلا كاستدلال عقلي قائم على ملاحظة التماثل في الصفات بين الأنا والغير كالكلام والسلوك التلقائي الذكي..، ثم الإستنتاج بأنها تمظهرات دالة على وجود ذات مفكرة واعية يستحيل إدراكها مباشرة لأن ذلك مناقض لمعنى الوعي باعتباره حضور الذات إزاء نفسها. ولكن مالمشكلة في مثل هذا الإستدلال؟ على عكس حكم الحدس يظل حكم الإستدلال -ومن ثم وجود الغير- احتماليا مفترضا وجائزا لايبلغ درجة يقين وجود الأنا أفكر. نحن أمام مذهب فلسفي تنتهي نتائجه إلى "وحدانية الذات " التي لاتستطيع أن تجزم يقينا سوى بوجودها الخاص، وذلك بسبب تبنيها لمفهوم الوعي باعتباره تطابق الأنا مع ذاته.
<
لكن هل يمكن حقا لفعل الوعي أن يستغني عن حضور الغير والعلاقة به بشكل من الأشكال؟ هل يمكن لكائن ولموجود وحيد في عزلة انطلوجية مطلقة أن يعي ذاته ويشير إليها بضمير"أنا"؟
يتناول هيغل التركة الديكارتية من زاوية مغايرة: فالوعي ليس كيانا ميتافيزيقيا مجردا ثابتا أو معطى أوليا إنه بالأحرى كيان ينمو ويتطور في علاقته بما عداه من الأشياء (الطبيعية) أولآ ثم الغير(وعي الذات الأخرى) ثانيا. كيف ذلك؟ من المعروف أن المنطق الجدلي عند هيغل يؤكد على مبدأي التناقض والصيرورة التي تتجلّى بوضوح في العملية الثلاثية المستمرة : الأطروحة – النقيض – التركيب؛ وبعبارة أخرى فكل كائن يحمل بالضروة نقيضه كشرط لوجوده ومن ثم فالوعي يحمل بالضرورة نقيضه كعنصر سلب ونفي متمثل في ماسواه. يتخد هذا الأخير شكل الطبيعة أولا: فمن خلال تغييرها وترك آثار عليها واشباع الحاجات البيولوجية، يبدأ الوعي في اكتشاف نفسه و"وعيها" ، لكن هذا الإكتشاف لايتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات التي تظل مع ذلك غارقة ومنغمسة في الطبيعة لكون رغباتها لاتتجاوز الرغبات الطبيعية، لكن هذا يدلنا على كل حال على أهمية"التوسط"في وعي الذات، وبعبارة أخرى لايمكن للوعي أن ينبثق من خلال العلاقة المباشرة للأنا بذاته بل عبر آخر يتوسط بينه وبين ذاته ولن يكون هذا الآخر في المرحلة التالية سوى الغير أو الذات الأخرى التي يتعين أن يكتشف الأنا نفسه فيها من خلال إعترافها به. هكذا ينتقل الأنا من الرغبة في شيء طبيعي إلى الرغبة في رغبة أخرى هي هذا الإعتراف الذي لايمنح بشكل سلمي لأنه إعتراف منشود من الطرفين معا. على ضوء هذا التحليل يقرأ هيغل علاقة أو "جدلية السيد والعبد" باعتبارها أول علاقة إنسانية مدشنة للتاريخ البشري: إنها علاقة فردين يغامران بحياتهما ويسموان فوق الطبيعة بدخولهما في صراع ينشد فيه كل طرف موت الآخر، بيد أن المنتصر في نهاية المطاف يبقي على حياة المنهزم لأن موته لايحقق الإعتراف المنشود. إن السيد والعبد وجهان لعملة واحدة هي وعي الذات: الأول وعي لذاته خالص، والثاني وعي تابع أو " وجود – من – أجل – الغير". صحيح أن علاقة الأنا بالغير لاتتخد دوما هذا الطابع الدراماتيكي، لكن الصراع الضمني أو المعلن يظل خاصيتها المؤسسة. لأن كل علاقة من هذا القبيل هي نشدان للإعتراف أو بالأحرى إنتزاع له.
نص هيغل : جدل الأنا والآخر
يكون وعي الذات (الإنسان) أولا وجودا لذاته بسيطا. وهو اذ يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة اليه، فانه يكون مساويا أو مطابقا لذاته، وتقوم ماهيته فى كونه أنا. وهو فى وجوده المباشر هذا (إدراكه لذاته كأنا ) شيء فردى. ويكون مإ هو أخر بالنسبة إليه موضوعا ... أي شيئا غير جوهري، متسما بطابع السلب (لكونه لا - أنا). غير أن الآخر البشري هو أيضا وعي للذات (لذاته) هكذا ينبثق فرد أمام فرد، ويقف أمامه وجها لوجه. «وبظهورهما على هذا النحو المباشر ، يكونان في صورة موضوعين اأحدهما بالنسبة للآخر). إنهما شيئان أو وجهان مستقلان... غارقان أو منغمسان في الحياة لازال أحدهما لم يقم تجاه الآخر بحركة التجريد، التي تتمثل في أن يستأصل كل منهما من ذاته كل وجود مباشر ،.. وبعبارة أخرى، ان هذين الوعبين، لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر بوصفه وجودا لذاته خالصا ، أى وعيا لذاته. كل منهما متييقن من ذاته، وليس متيقنا من الآخر. وهكذا فإن هذا اليقين لا يكتسي بعد طابع الحقيقة تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها (أمام الآخر) بوصفها تجريدا خالصا لوعي الذات، في إظهارها أنها ليست متشبثة بالحياة. وهذه العملية مزدوجة : يقوم بها الآخر كما تقوم بها الذات. وأن يقوم بها الآخر معناه أن كلا منهما يسعى إلى موت الأخر. وأن تقوم بها الذات يعني أنها تخاطر بحياتها الخاصة. يتخد سلوك كل من وعيي الذات (الفردين البشريين المتواجهيين) إذن، بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت.إنهما مجبران بالضرورة على الإنخراط في هذا الصراع، لأن على كليهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذآتة وبالنسبة إلى الآخر.فالمخاطرة بالحياة هى وحدها التي يتم بواسطتها، الحفاظ على الحرية، وبها وحدها يقدم الدليل على أن وعي الذات ليس (مجردا وجود، وليس موجودا على نمط مباشر مثل نمط وجود الأشياء) ... ولا انغماسا أو تشبثا بالحياة.أن الفرد الذي لم يخاطر بحياته، قد يعترف به كشخص، ولكنه لا يبلغ حقيقة الاعتراف به كوعي لذاته مستقل. كذلك يكون على كل فرد عندما يخاطر بحياته الخاصة أن يسعى إلي موت الآخر. لأن الآخر لم يعد أسمى منه قيمة، وانما تتجلى له ماهيته كأخر يوجد خارجا عن ذاته، وعليه أن يلغي وجوده الخارج عن ذاته. غير أن هذا الدليل الأعلى (على ارتقاء الفرد من مجرد أنا مباشر إلى وعي للذات معترف به ا الذي يقدم بواسطة الموت، يلغي ... الحقيقة التي كان من المفروض أن تنجم عنه، كما يلغي، في نفس الوقت، اليقين الذاتي بوجه عام ..> يتعلم وعي الذات في هذه التجربة أن الحياة هي بالنسبة إليه شيء جوهري مثل وعي الذات ... عن طريق هذه التجربة يتقابل وعي خالص لذاته من جهة، ووعي ليس وعيا لذاته بكيفية خالصة، من جهة أخرى وإنما هو وعي من أجل وعي آخر، أي أنه..وعي يوجد على نمط وجود الأشياء. هاتان اللحظتان جوهريتان، إنهما لما كانتا غير متساويتين ومتعارضتين... فإنهما بمثابة وجهين متقابلين للوعي : إحداهما لحظة وعي مستقل، تقوم ماهيته في كونه وجودا لذاته، والأخرى لحظة وعي تابع تقوم ماهيته في الحياة والوجود من أجل الآخر، أحدهما سيد والآخر عبد . هيغل ، فينومينولوجيا الروح، ترجمة جون هيبوليت،أوبييه، ج 1.1977 ص.ص: 158-159 نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997 |
صورة للتأمل: الصراع كنمط من أنماط اتباث الوجود من خلال تحدي الآخر وهزيمته وإخضاعه!! يتقوى الشعور بالانتصار والتفوق لدى المنتصر والشعور بالخضوع لدى المنهزم بسبب حضور أغيار آخرين يشهدون الموقف كانت المبارزة في اوروبا وسيلة قانونية codifié لحل النزاعات بين الأفراد ورد الاعتبار رغم أنها تكون أحيانا مبارزات مميتة يفقد فيها أحد الطرفين حياته !! لقد تجاوزت الإنسانية اللحظة التاريخية التي يصفها هيغل في جدلية السيد والعبد، ولكن نمط العلاقة بين الأنا والغير لا يزال هو نفسه. يفترض أننا تجاوزنا حالة الطبيعة بحيث غدت العلاقات بين الأفراد خاضعة لقانون موضوعي، غير أن حاجة االفرد إلى الاجتماع والسلم لاتقل عن حاجته إلى اخضاع الغير وانتزاع اعترافه... | لوحة تظهر مبارزة بالسيوف بين سيدات المجتمع الإسباني الارستقراطي على مشارف مدريد في نهايات القرن 19. |
تدفعنا المقاربة الهيغيلية إلى القول بأن وعي الذات يقتضي وعي الغير، وأن الأنا والغير ينبثقان من خلال علاقتهما وليس قبلها. ونضيف تأكيدا لضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا حالة " الأطفال المتوحشين" الذين لاحظ إتيان مالصون أن بعضهم يشكو من ضعف أو غياب سيرورات الوعي بالذات كعدم التعرف على النفس في المرآة وعدم القدرة على الإحساس بالفخر والخجل... بسبب إفتقادهم طيلة طفولتهم إلى العلاقة مع الغير. إنها إذن علاقة ضرورية في سيرورة نمو الوعي وظهوره. ولنسأل أنفسنا أخيرا: هل يستطيع الواحد منا أن يعتبر نفسه ذكيا أو بليدا، ودودا أو حقودا، جميلا أو ذميما، بطلا أوجبانا... من غير أن نكون قد إستخلصنا ذلك من نظرة الغير أو شهادته؟
إشكالية معرفة الغير
وضعية مشكلة: في الكاريكاتور المقابل، يطلع الرجل ذو السترة السوداء مباشرة على أفكار الرجل المنهمك في القراءة، لاشك أنه لايطلع فقط على السطور التي يتلوها القارئ، بل يطلع أيضا على الانطباعات وردود الأفعال والذكريات والصور الحميمية التي تثيرها في ذهنه السطور المقروءة!! يالها من قدرة سحرية!! لقد أصبح الغير شفافا، ولم تعد هناك حاجة للتعبير أي للصياغة اللغوية للأفكار. ولكن أنى لنا هذه القدرة! لامفر إذن من طرح السؤال: كيف أعرف الغير؟ أي كيف لي أن أنفذ إلى محتويات وعيه وشعوره؟ تلك القلعة المغلقة بإحكام! وهل هذه المعرفة ممكنة أصلا؟ ألا تحيله عملية المعرفة إلى موضوع وتنفيه كذات؟ كما نرى في هذا الكاريكاتور |
تنبيه: يمكن استثمار المعطيات اللاحقة لمعالجة إشكالات موازية مثل: التواصل مع الغير، الإعتراف بالغير وإحترامه أو إقصاؤه، الغير والمشاركة الوجدانية، الغير كذات أو كموضوع، الإتصال والإنفصال بين الذوات...
يبدو أن إثبات التلازم الجدلي بين الأنا والغير عند هيغل لايتم إلا من خلال الطابع الصراعي لعلاقتهما، أفلا يحضر هذا الطابع الصراعي أيضا على مستوى العلاقة المعرفية؟ إذا كنت في معرفتي لذاتي أؤكدها من خلال وعيي المباشر بحالاتي النفسية الداخلية، أفلا تعني معرفة الغير تحويله إلى موضوع ومن ثم نفيه كذات؟ تحيل العلاقة المعرفية على ذات وموضوع: ذات تمارس فعل المعرفة مكرسة بذلك حريتها وتلقائيتها وفعاليتها، وموضوع خاضع لشتى العمليات المعرفية كالإدراك والحكم والتصنيف أو حتى الشك والنفي. إنه إذن تحت رحمة الذات أو "الأنا أفكر"مجردا من صفات الذات كالتلقائية والحرية غارقا في العطالة كالأشياء. وهذا ماتؤكه على نحو ملموس تحليلات سارتر لتجربة الخجل الناجمة عن نظرة الغير: فقبل الخجل يتصرف الأنا في تطابق مع ذاته بحرية وتلقائية ،إنه مركز عالمه الداخلي، وما إن يحس الأنا حضور الغير من خلال نظرته،حتى تتجمد حريته وعفويته(التوتر-الإرتباك-الإحساس بالتفاهة ...) وينسحب من مركز عالمه إلى هامشه، وقد تحول إلى موضوع أو شيئ . يقول سارتر:"عندما ينظر إلى الغير فهو يفرض نفسه خارجا عني ليحولني إلى شيء : قادرا على تأويل سلوكي وإعطائه معنى قد لا يكون هو المعنى نفسه الذي أقصده، وبذلك أسقط تحت رحمته وسلطته ... "وذلك لأني أحس أن صورتي كما يراها الأخر مستقلة عني في وجودها كصورتي الفوتوغرافية، ويرجع سارتر الطبيعة التشييئية لعلاقة الأنا بالغير إلى أن هذا الأخير هو "لا- أنا" مما يعني السلب والنفي والإنفصال، هذاالإنفصال الذي تؤكده واقعة الإنفصال الأمبريقي بين جسمينا. وهكذا لايمكن للغير أن يتبدى لي(والعكس صحيح ) سوى كـــ"شيئ في ذاته" ولعل خير ما يلخص التصور السارتري السابق هو عبارته الشهيرة "الجحيم هم الأخرون ". في نفس السياق نص غاستون بيرجي : الذوات كمونادات أو جزر معزولة عن بعضها
كيف لى الأ أشعر بان هذه الحميمية التى تحمينى و تحدنى هى عائق يحول بصورة نهانية بينى وبين أي تواصل ( مع الفير) ؟ فحين كنت قبل قليل تانها بين الاخرين كاد وجودي ان يتلاشى، و الآن اكتشف لم بمعزل عنهم غبطة الإحساس بالحياة، لكن هذه الغبطة لا يتذوق طعمها احد سواى. حقا ان نفسي هى ملك لى، إلا أننى حبيس داخلها. إن الآخرين لا يستطيعون ولوج وعيى كما لا يمكن لى أن أخلى لهم السبيل للنفاذ إليه حتى لو تمنيت ذلك بكل قوة فأقوالى و حركاتى هي علامات أو إشارات لا تستطيع أن تفعل أكثر من التلميح او الإشارة إلى تجربة أعيشها أنا دون ان يكون فى مقدور من أتوجه إليهم معايشتها ان آلام الآخرين هى التى تكشف لى اكثر عن آلامى أنا، عما بيننا من انفصال و تباعد لا يقبل التقليص. لا شك اننى استطيع، عندما يتالم صديق لي ان أقوم بافعال ناجعة لمساعدته، و ان أواسيه وان احاول بكل ما اوتيت من رقة و لطف أن أخفف من شدة الالم الذى يمزقه إلا ان المه يظل مع نلك خارجا عنى، و تظل محنته محنة شخصية خاصة به. فقد أتالم مثله و ربما اكثر منه، لكن تألمى يكون دائما مختلفا عن تالمه. و بما ان الإنسان حبيس فى المه، متفرد في سروره فإنه محكوم عليه ألآ يشبع ابدا رغبته فى التواصل مع الغير مع انه لا يستطيع ان يستغنى عن هذا التواصل غاستون بيرجي، من الشبيه إلى القريب ورد كنص ضمن: الامتحان الوطني لمادة الفلسفة – الشعبة الأدبية – الدورة الإستدراكية – يوليوز 2003 |
القائل باستحالة أو على الأقل صعوبة معرفة الغير يندرج تصور غاستون بيرجي حول عزلة كل ذات داخل عالمها الخاص بسبب إستحالة التعبير عن العالم الحميمي للذات، عندما يقول: " إن ما هو خاص به، ما هو حميمي وما يميزني عن الأخرين يشكل أكبر عائق أمام كل محاولة للتواصل مع الغير: فأنا الوحيد الذي أملك روحي، لكني سجينها في نفس الوقت، وحتى عندما أرغب في الخروج منها للتواصل أفشل، لأن حركاتي وكلماتي ليست سوى تلميحات وإشارات إلى ما أحسه لكن الأخر المستمع لا يعيش هذا الإحساس ! إن ألم ومعاناة الأخرين هي التي تكشف عزلة الذوات على بعضها " . هل يمكن و الحالة هذه أن نعلن إستحالة معرفة الغير وأن نجعل من الذوات جزرا وقلاعا حصينة مغلقة أو" مونادات " بتعبير لايبنز ؟ الواقع أن تحليلات فلسفية عديدة ترى غير ذلك: فهذا ميرلوبونتي يقوم بوصف فينومينولوجي لعملية التواصل ليستدل بها على إمكانية معرفة الغير معتبرا أن العلاقة مع الغير لا تحوله إلى موضوع وتنفيه. وأن النظرة لا تشيؤه إلا إذا كانت نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق: أي نظرة تفحص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبل (كنظرة الأم وهي تتابع مشجعة خطوات إبنها الأولى )، وإلا إذا آنسحبت كل ذات إلى طبيعتها المفكرة وتموقعت داخل تعالي الكوجيطو متخدة ما عداها مجرد موضوعات لعملياتها المعرفية. وبالمقابل فإن أبسط تجارب التواصل بعد صمت لا تنقل إلي بعض أفكار الغير وأصواته فحسب، بل وعالمه الذي كان يتبدى لي من قبل متعاليا غريبا منفصلا عن عالمي. إن التواصل يثبت أن الإختلاف والمغايرة بين الذوات ليست من نمط الإختلاف الطبيعي ( كذاك القائم بين شيئين: طاولة وكرسي حيث الهوة و الإنفصال) بل إختلاف إنساني لا يلغي التقاطع ضمن المجال "البينذاتي " المشترك . لهذا السبب لا يتحدث ميرلوبونتي عن المعرفة (connaissance) بل عن الإنبثاق المشترك (co-naissance ).
نص ميرلوبونتي : الغير والتواصل والمجال البينذاتي
يقال إن من الواجب علينا أن نختار أحد اثنين : إما أنا واما الفير. غير أننا نختار أحدهما ضد الآخر، ونحن، بذلك، فؤكدهما معا . ويقال أيضا إن الفير يحولني إلى موضوع وينفيني، وأحوله إلى موضوع وأنفيه. والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلي موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة، وجعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، والا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة. ذلك ما يحصل مثلا عندما تقع علي نظرة شخص مجهول. غير أنه حتى في هذه الحالة لا يتحول كل منا إلى موضوع أمام الآخر بفعل نظرة الفير، ولا تولد هذه النظرة الشعور بالضيق، إلا لكونها تحل محل تواصل ممكن. فالإمتناع عن التواصل هو أيضا نمط من التواصل. إن الحرية ذات الأوجه والأشكال المتعددة، والطبيعة المفكرة، والأعماق التي تستباح فيها ، والوجود الخالي من الصفة أو الإسم، إن كل هذا الذي يضع فينا أنا والفير حدودا لكل تعاطف، يجعل التواصل معلقا ، ولكن لا يعدمه. إذا ما ربطتني صلة بشخص مجهول لم ينبس بعد بكلمة، فإنني أستطيع أن أعتقد أنه يعيش في عالم آخر لا تستحق أفعالي وأفكاري أن توجد فيه. لكن ما أن ينطق بكلمة حتى يكف عن التعالي علي : هو ذا صوته وهي ذي أفكاره، هو ذا المجال الذي كنت أعتقد أنه يستعصي على بلوغه. فلا يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة نهائيه إلا حين يبقى. عاطلا، ويتوطد فى اختلافه الطبيعي . ميرلوبونتي، فينومنلوجيا الإدراك نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997 |
لكن الإقرار بإمكانية معرفة الغير لا يمنعني من البحث عن أنماط وطرائق هذه المعرفة، لأن التواصل يفترض وجود علامات، سنن وقنوات. وفي هذا الإطار يبدو كما لو أن معرفتنا بالغير قائمة على نوع من الإستدلال الضمني هو "الإستدلال بالمماثلة"، فإذا كانت حالة الخجل تترافق عندي مع احمرار الوجه، والألم مع البكاء وبعض الكلمات مع بعض المعاني أو المشاعر، فإني أسارع إلى تأويل احمرار الوجه كعلامة على خجل الغير،كما أنسب إلى كلماته المعاني والمشاعر المعهودة لدي ... وهكذا. إن معرفة الغير على هذا النحو قائم على افتراض أن الغير شبيه ومماثل للأنا، وأن العلامات الخارجية الصادرة عنه ( كلمات ،حركات، تعابير الوجه ... ) تترافق مع حالات نفسية داخلية معينة كما هو الحال لدى الذات ،إننا ببساطة لا نعرف الغير مباشرة، بل عبر وساطة ما يصدر عنه من علامات . غير أن تناول معرفة الغير على هذا النحو يطرح صعوبات واستحالات : فقد يظهر الغير خلاف ما يبطن قاطعا الصلة بين الحالة النفسية وعلاماتها المعهودة ، وقد تفشل التعابيرالخارجية (الكلمات مثلا ) في التصوير الدقيق لتلوينات المعاني والأحاسيس والمشاعر، بل هناك ماهو أكبر من ذلك: عندما أدرك وراء إحمرار وجه الغير خجله، فأي خجل أدرك بالضبط؟ ألا أستحضر هنا تجربة خجلي الخاصة لفهم خجل الغير؟ ألا أدرك إذن خجلي الخاص فحسب؟ إنني ألتقي هنا مجددا بذاتي أنا وليس بذات الغير مادمت أختزل خجل الغير إلى خجلي الذي سبق أن خبرته وعشته؟
إن معرفة الغير من خلال إستدلال المماثلة تنتهي إلى تناقضات كثيرة نعيها بدرجات مختلفة في حياتنا اليومية، لذلك يرى ماكس شيلر أنه لتجاوز هذه الصعوبات ،ينبغي تجاوز الخلفيات الميتافيزيقية للتحليل السابق الذي يتناول الغير من خلال ثنائيات النفس/ الجسم أو الظاهر / الباطن وإعتبار الغير كلية أو كلاّ موحدا لايقبل التجزئة والإنقسام ولا يحيل فيه ظاهر مادي (جسدي) على باطن أو عمق مستحيل المنال ، بل إن حقيقته وهويته مجسدتان فيه كما يظهر ويتجلى للأنا : إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر. وينبغي التشديدعلى هذه الكلمة الأخيرة لأنها تدل على أن التحليل الظاهراتي أو الفينومينولوجي (أي وصف التجربة المعيشية مباشرة قبل خضوعها للمعالجة العقلية المجزئة ) يظهر أن معرفتنا للغير هي معرفة كلية مباشرة لا يمكن تجزيئها إلى عناصر ومراحل دون الإخلال بحقيقتها : فعندما أدرك فرح الغير ،فإني لا أدرك إبتسامته أولا منفصلة عن فرحه الداخلي الذي أستنتجه لاحقا، بل أدرك الأمرين معا ككلية متزامنة . ومما يدل على الطابع المباشر لعلاقتنا المعرفية بالغير ،قدرة الرضيع على التجاوب مع أمه والرد على إبتسامتها بابتسامة مماثلة مدركا مشاعر الأمان والحنان والتشجيع الكامنة خلفها وهو غير قادر بعد على القيام بأي نشاط أستدلالي معقد . ألا يشهد ذلك أن معرفتنا للغير تفترض نوعا من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الذوات . وهي مشاركة تبدو كمعطى شبه غريزي وكشرط لإندماج الكائن البشري ضمن جماعة الذوات الأخرى . وإذا استعملنا مصطلحات دلتاي سنقول بأن معرفة الغير تنتمي إلى مجال الفهم لا إلى مجال التفسير.
هكذا تبدو معرفة الغير أكثر تعقيدا مما يتصور الحس المشترك، بحيث تصدق هنا مقولة التوحيدي: " لقد أشكل الإنسان على الإنسان" وهو تعقيد يتزايد عندما نتأمل تعدد وجوه الغير.
وجوه الغير: الصداقة والغرابة
ليست علاقتنا بالغير مجرد علاقة معرفية، بل هي علاقة مركبة: عاطفية، وجدانية، إقتصادية، سياسية... ولذلك لايمكن فهمها في المجرد والمطلق بل بالتخصيص والتمييز: إذ يختلف تناول إشكالية وجود الغير وعلاقته بالأنا أو معرفته أو أشكال التواصل معه أو إمكانية إحترامه أو نبذه... حسبما إذا كان هذا الغير صديقا أو غريبا مثلا.فلنطرح القضية إذن بتجريد أقل مما سبق: كيف أقرأ علاقاتي المختلفة بالغير؟ ألا تدلني هذه العلاقات من جهة، على امكانية التواصل والتماهي معه، كما في حالة الصداقة والصديق ؟ وعلى حقيقة الإنفصال والإختلاف الجذري واللاتواصل واللاتفاهم كما في حالةالغريب من جهة ثانية؟ وعليه ألا يثير الغير بسبب تماثله ومغايرته مشاعر الإحترام والإعتراف وأيضا الإقصاء والنفي؟ وباختصار:كيف أتعرف على غيرية الغير وكيف اقرؤها؟ !
تنبيه: يمكن إستثمار المعطيات اللاحقة كنماذج تطبيقية وأمثلة ملموسة أثناء الإشتغال على إشكاليات متعلقة بوجود الغير أو معرفته.
من بين كل الأغيار، يظهر الغريب أقدر من غيره على تمثيل طبيعة علاقتي بالغير: فإذا كان الغير من "المغايرة" أي الاختلاف فإن الغريب هو الغير بامتياز، إنه المختلف، الأجنبي الذي يندس وسط جماعة من دون أن يشاطرها ثقافتها؛ لذلك نتساءل:ماذا أعرف عن طبيعة علاقتي بالغير على ضوء علاقتي بالغريب؟ وماهي دلالة الحذر والتوجس بل والكراهية التي يثيرها الغريب لدى الذات؟ موقف كريستيفا:علاقتي بالغير على ضوء النظر الأخلاقي العقلينحترم الغريب لأنه القوة الخفية لهوية الذات يبدو الغريب للوهلة الأولى عنوانا للحذر، للمجهول، للنكرة، للإبتعاد والإقصاء. لكن من هو الغريب تحديدا؟ إنه مفهوم زئبقي لأنه يتحدد دوما كغريب بالنسبة لجماعة مرجعية ما؛ إنه ذلك الذي لا يشاطر أعضاء الجماعة مرجعيتهم المشتركة، ذلك الذي يجر خلفه ثقافة مغايرة مجهولة، إنه الدخيل بكل بساطة، وباعتباره كذلك فقد نظر إليه عبر التاريخ كمسؤول عن كل شرور المدينة أو الجماعة والذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن هذا الموقف الإقصائي حاضر بقوة في كل مكان بدءا من ساكن المدينة الذي يعتبر نفسه "مدينيا" أصيلا محملا جميع مشاكل المدينة إلى هؤلاء الغرباء "البدو" (الْعْروبيهْ-بالدارجة!!) القادمين من البعيد، وصولا إلى الخطابات السياسية القائمة على كراهية الأجنبي المهاجر و ضرورة طرده كحل للأزمات ... . لماذا و هل ينبغي أن يكون الغريب دائما إسما مستعارا للحقد و الإقصاء؟ نص كريستيفا : من هو الغريب؟!
ليس الغريب، الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر... هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها . . . ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا ، والفضاء الذي ينسف بيتنا ، والزمان الذي يتبدأ فيه وفاقنا وتعاطفنا . ونحن إذ تنعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته. إن الغريب، بوصفه عرضا دالا يجعل النحن» إشكاليا وربما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما تنعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء متمرون على الروابط والجماعات ( . ..) كيف يكون الإنسان غريبا ؟ نادرا ما يخطر على بالنا هذا السؤال، لشدة اقتناعا بكوننا مواطنين بصورة طبيعية. . . أو أننا إن انقدنا إلى طرحه طرحا سطحيا ، فلكي نحط، على الفور، في جهة من يتمتعون بالحقوق الوطنية، ونقصي إلى خارجية خرقاء، من ينتمون إلى بلد آخر لم يعرفوا كيف يحرصون على الإنتماء إليه ولم يعد ملكا خاصا لهم. حقا إن لفكرة الغريب اليوم، دلالة حقوقية، فهي تدل على من لا يتمتن بمواطنة البلد الذي يقطنه. ومن المؤكد أن مذاهالضبط من شأنه تهدئة الخواطر واتاحة إخضا ع الأهوا ء الشائكة للقوانين، كك الأهوا ء التي ميسثيرها تطفل الآخر وانحشاره داخل انسجام أسرة أو جماعة بشرية. غير أنه يسكت عن ضروب القلق والإنزعاج التي تتصل بهذه الوضعية الشاذة، التي تتمثل في أن يتخذ الإنسان وضعية المختلف داخل جماعة بشرية تنفلق، بالتعريف، على نفسها مقصية عنها المخالفين . جوليا كريستسفا، غرباء عن أنفسنا نقلا عن الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة وزارة التربية الوطنية - الطبعة الأولى 1996-1997 |
تقوم سيكولوجية الجماعة على تطابق الأنا أو الذوات الفردية مع النحن/الجماعة انطلاقا من آليات معقدة للتنشئة الإجتماعية، مع اعتقاد راسخ في الطابع الخالص لهوية الجماعة و ثقافتها. مما يسهل على أفراد الجماعة التعرف على بعضهم و استبعاد كل غريب و آخر، وهنا تتساءل الفرنسية ذات الأصل البلغاري "جوليا كريستيفا": ألا تحمل كل جماعة غريبها في ذاتها قبل قدوم الغريب الأجنبي؟ و ذلك عندما يشعر أفرادها بالرغبة في التمرد على روابط و قيم جماعتهم ووضعها موضع تساؤل و تشكك أو عندما لايستطيعون العثور على "أناهم" من خلال "نحن" الجماعة. وهل هناك جماعة ذات هوية خالصة تبرر استبعاد العناصر الأجنبية عنها؟ ما الهوية المغربية مثلا؟ أليست مزيجا من هويات أمازيغية ،افريقية، عربية، إسلامية، اندلسية، غربية...واللائحة طويلة. إذا فالغريب أو الآخر ليس سوى ذلك الجزء أو القوة الخفية لهويتنا التى نحاول انكارها باستمرار بحثا عن نقاء خالص موهوم. ثم ألا تحمل الذات الفردية بدورها غريبها في ذاتها متمثلا في ذلك الجزء المجهول – اللاشعور – الذي لايكاد الأنا يعلمه أو يعيه.
كخلاصة، ماذا ينبغي أن يعني الغريب بالنسبة إلى الأنا؟ إنه يحيل كل هوية فردية أو جماعية إلى هوية إشكالية وربما مستحيلة. والأهم من ذلك – كما تقول كريستيفا – فإننا عندما نتعرف على الغريب في ذاتنا، نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته فنتخد حياله موقف الحوار والتسامح عوض العداء والإقصاء.
إذا كان موقف كريستيفا مقنعا من الناحية النظرية-العقلية ، فلماذا لا يجد سبيله إلى التطبيق على أرض الواقع؟ لماذا يرتسم الحقد والحذر عنوانا لعلاقتي بالغير/الغريب؟ ألا يعني ذلك أن علاقتي بالغريب/الغير تتحدد أيضا على المستوى الوجداني -النفسي اللاشعوري (الأهواء)؟ موقف فرويد:علاقتي بالغير على ضوء التحليل النفسي-نحترم الغريب لأنه يسكن في قلب الذاتفي النص التالي ينطلق فرويد من نظرية "الطابع الغريزي المتأصل للنزعات العدوانية لدى الإنسان"، وما يستتبع تفريغها من لذة، ليحاجج بأن محبة الجار/القريب مستحيلة، فمالك بالغير/الغريب. وبعد تحليل وفحص مختلف الأسباب التي يمكنها أن تدعوني إلى حب الغير واحترامه، يخلص إلى نتيجة مستفزة، لكنها تعكس جيدا الخاصية النقدية للتفكير الفلسفي، و هي أن الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي،!وبعبارة أرى يحاول فرويد أن يكشف مقدار النفاق والتناقض الذي يقف وراء الحكم الأخلاقية وعلى رأسها الحكمة الشهيرة: " أحب قريبك كما تحب نفسك" ومن ثم استحالة تنظيم علاقتي بالغير وفق مبدأ أو أمر أخلاقي عام ومجرد نص فرويد : كيف لي أن أحب قريبي كحب لنفسي؟!
الحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: "أحبب قريبك كنفسك". وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ. لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟ ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه. ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟ حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحيان عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: "أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه"، لما كان لي عليها من اعتراض. ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: "أحبب عدوك". ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان. المصدر: سغموند فرويد، قلق في الحضارة، ضمن "الحب والحرب والحضارة والموت" ترجمة عبد المنعم الحفني دار الرشاد، القاهرة 1992 ص.ص: 71-73 النص في الحقيقة مقتطف من الترجمة العربية لكتاب "قلق في الحضارة" لجورج طرابيشي ولكن احالاته قد ضاعت! |
انفتاحات ممكنة للدرس: الغير والهويةأطروحة الأنا/ الذات في مقابل الآخر/ المختلف تفرض ثباتًا حيث لا ثبات، في حين أن الذات منزلة من منازل الآخر، و الآخر منزلة من منازل الذات في دورة واحدة دائمة ودائبة لا تتوقف، ولا تنفصل فيها منزلة عن منزلة إلا إلى حين،. بمعنى أن "الهوية" حالة متحركة دينامية لا تكف عن التشكل والتبلور، والتداخل والتشابك، والانكماش والتمدد الداخلي، وهذا مخالف للهوية كمادة صلبة تتراكم طبقاتها أو تنكسر تحت الضغوط. وإذا صح هذا التصور الدينامي الزئبقي للهوية،يغدو الغريب مفهوما نسبيا، وكثيرا مايحدث أن تتبادل الذات والغريب المواقع، فيستعصي تمييز أحدهما من الآخر