… بعد عدة ثواني، نطق “الضخم” وهو يحملق إلى حقيبة الحاسوب التي أحمل بيمناي قائلا: ” هل تعلم أن العام الماضي سرقت ستة حواسيب نقالة؟ ‘ توقف قليلا ثم أكمل حديثه وهو يسألني: “أتريد أن تلاقي نفس المصير؟”. أجبت بابتسامة عريضة بالنهي، فاشتعل الشاب الأوسط غضبا وقال في عجالة متوجها إلى صديقه الضخم: “دعك منه ولنذهب لشخص أخر”. استغربت من مداخلته لكنني لم أعلق عليها وتوجهت مباشرة إلى غرفتي، هناك وجدت (محمد) و(أمين) اللذان قابلاني بالعتاب لأنني تأخرت لذا قاما بعملية التنظيف وتركيب السرائر والأبواب والنوافذ بم فيها خاصتي بالنيابة عني لكنهما تفهما الأمر عندما شرحت لهما صعوبة الوصول من البيت إلى المركز ثم لحقتها بأن أحكي لهما الموقف الغريب الذي حدث معي سلفا فابتسم (أمين) قائلا: مرحبا بك في “البيزوتاج”.
لم يستغرق الأمر مني سوى أجزاء من الثانية حتى تذكرت أين سمعت بهذه الكلمة من قبل، كنت حينها في ملعب الثانوية (الخوارزمي) أقوم بتبادل ضربات كرة السلة الترجيحية مع واحد من الأصدقاء يدعى (حسن) كان أخوه قد تخرج مسبقا من الأقسام التحضيرية وبينما كنا نتبادل الضربات، أخدنا نتبادل النقاش ووجهات النظر حول التوجيه والدراسة ما بعد الباكالوريا، فأخبرني عن الأقسام ومميزاتها وصعوبتها منطلقا مما سمعه عن شقيقه.. فجأة، نطق بكلمة “بيزوتاج” فسألت عن معناها ثم أجابني قائلا: “إنها بكل بساطة، أسوأ بداية يمكن أن تستهل بها دراستك.” هذه الظاهرة العالمية هي بوابة للاندماج بشكل سريع داخل أجواء الجامعة والتأقلم مع الحياة الدراسية الداخلية الجديدة وذلك عبر الامتثال لأوامر الطلاب السابقين بشكل يجعل التعارف معهم أقرب مما تتخيل. قد يبدو الهدف من “البيزوتاج” ساميا ومفيدا إلى أن هذه الظاهرة أصبحت يوما بعد يوم سببا في تشكيل أزمات نفسية و’عقد’ لا تحل بسهولة.
إلى أن ‘البيزوتاج’ لم يعد مجرد كلمة أتذكر مصدرها الذي يعود إلى مباراة مضت منذ عدة شهور بل سرعان ما أصبح حقيقة وواقع علي التعامل معه وسرعان ما سمعت صوت أشبه بالرعد فخرجنا لنرى ما يحدث، إذ بهم الطلاب السابقين يركلون الأبواب بأرجلهم كي يخرجوننا من الغرف وتبدأ ‘التظاهرة الاجتماعية’.
خرجنا مصطفين إلى الساحة الرئيسية نقوم بترديد كلمات غريبة حسب طلبهم على ضوء الهلال الجميل، كنا متراصين كالعساكر وهم يقومون بالتجول حولنا وتفقدنا كأنهم الضباط يختار واحد منهم واحد منا ليمارس عليه نوعا من السلطة ويملي عليه ما يفعل. قلت في نفسي: لم لا أتعامل مع الأمر بدبلوماسية وأجعل ‘قشابتي’ أوسع مما هي عليه فبالرغم من أنني سريع الغضب لكنني تمالكت أعصابي وترددت على جبيني ابتسامات خفيفة كلما لاقاني أحدهم إلى حين انتهى الأمر وأطلقوا سراحنا فأسرعت لترتيب ملابسي وأغراضي ونمت بأقصى سرعة منتظرا على أحر من الجمر اليوم الدراسي الأول. معتقدا أن “البيزوتاج” انتهى بنهاية اليوم. استيقظت باكرا وكدت أسقط أثناء نزولي من السرير لأني لم أكن معتادا بعد على النوم في سرير طابق ثاني, دخلت الحمام لأغسل وجهي ثم غيرت ملابسي وأخذت محفظتي تم توجهت إلى القسم فدخل الأستاذ بعد دقائق من حلول الساعة، شخص طويل القامة، عمره يتعدى الأربعين، قوي البنية، مبتسم بشكل مبالغ فيه، يرتدي بذلة بيضاء كالتي يلبسوها بائعي الألبان، متخصص في مادة الفيزياء ويدعى (حنين). بمجرد دخوله القسم وإلقائه تحية السلام تم تعريفنا به، أخذ قائمة الأسماء واستغرق نصف ساعة يقص لنا فيها عن الدراسة التي التحقنا بها، تحدياتها، أهميتها ومدى تأثيرها على الطالب قبل أن يحثنا على أن ننسى ما كنا عليه وأن “الأقسام” هي بداية تجعل كل من ولج إليها متساويين مهما كان مستواهم السابق، في هذه الأثناء كنا نسمع إلى صوت ضجيج غريب خارج القسم ونتساءل عما يحدث هناك لذلك أكثر من ثلاثة أرباع كلام (حنين) الآخر لم أنتبه إليه. بعدما أنهى خطابه، قام إلى السبورة ليلحظ اختفاء الممسحة فإذا بوجهه ينقلب 180 درجة، وأخذ ينزل بالشتائم تباعا على النظام الدراسي والمسئولين يبدو كأولئك “الحاقدين على الوضع” الذين لا يكلون من إلقاء المسؤولية عن الغير، لم يهدأ حتى تطوع أحد الطلاب ومسح السبورة بمنديله الخاص ثم استهل (حنين) درسه الأول في الكهرباء، فجأة ظهرت فتاة ترتدي ملابس منزلية ونظارتين، شعرها أشعت ويبدو عليها النعاس دقت الباب تم ذهب إليها الأستاذ وحادثها بنبرة يبدو عليها الحدة والرفض ونحن نراهما فقط من خلال زجاج النوافذ لكن لا نسمع موضوع حديثها، عندما انتهيا انصرفت الفتاة ووجهها شاحب في حين دخل (حنين) وهو يردد جملة لم أنساها قط “لا أحب من تسن له نفسه القبول بالمهانة “. عندما سمعت جملته ورأيت من زجاج النافذة المطلة مجموعة من الأشخاص يبدو أنهم طلاب سابقون يقفون متعطشين لخروجنا فهمت آنذاك أن “البيزوتاج” لم ينتهي بعد وما صوت الضوضاء المستمر إلا أصوات العساكر والضباط يتبادلون الحديث البيزوتاجي. دقت الساعة، تم خرجنا فوجدناهم في قبلتنا قاموا بسحبنا على الساحة الرئيسية لمواكبة أسلافنا.
هذه المرة، الأمور أصبحت أكثر جدية والأوامر أكثر صعوبة قد يصعب للبعض تقبلها فهناك من يرقص، أخر يغني، أخر يصرخ، أخر يؤدي أدوارا غريبة أغلبها أدوار حيوانات، أو كائنات عجيبة (بوكيمون مثلا) هناك من حكم عليه بأن لا يصدر صوتا وهناك من حكم عليه بأن يؤدي مشهدا رومانسيا مع شجرة أو يقبل قطة، أخر عليه أن يحرك مؤخرته بشكل هزلي، أو يقوم بحركات رياضية صعبة، كثيرا منا قام بأشياء لم يتخيل يوما أنه سيقوم بها. لكننا مع ذلك أمضينا نصف يوم تحت حرارة شمس سبتمبر صائمين ننفذ الأوامر ونستهزئ من أنفسنا وندوس على كرامتنا ولا أحد يستطيع أن يعترض خصوصا أننا نعلم جميعا أن هذا الأمر مصادق عليه من طرف مدير الثانوية بنفسه. بعد مرور ساعات من الذل و المهانة حان موعد آذان المغرب، حملنا كلنا “بلاتوات” كنا قد أخذناهم سلفا واصطفينا ثانية ثم توجهنا إلى المطعم على شكل مجموعات نردد هتافات سخيفة بأمر من الضباط. لكن نهتم لما نقوله بقدر ما كنا نهتم بأن نملئ بطوننا بـ الخبز البالي مع البيض “البائت” مرفقة بياغورت وقليلا من التمر و”الشباكية”.
بعد استراحة دامت عدة دقائق، عدنا للخدمة من جديد دامت عدة ساعات، ثم توجه كل منا إلى غرفته في ساعة متأخرة من الليل، أول ما عبرت الباب هممت إلى السرير دون حتى أن أغير ملابسي واستلقيت مستغيثا من شدة التعب وغرابة ما كنا نمر به فأحيانا كان يبدو لي ممتعا لكن أحيانا كثيرة أحسست فيها بالمهانة وحماقة ما نفعله إلى أنني حاولت أن أنسى كل شيء وأركز في النوم عميقا لكن ذلك لم يحدث لأنه في ذلك الحين دخل شاب يدعى (معاذ) طالب من السنة الثانية، قصد غرفتنا لأنه علم أننا جميعا سبق ودرسنا بـ(الخوارزمي) فأحب أن يلقي علينا التحية ويعطينا بعض النصائح لأنه هو الأخير أيضا طالب سابق بـ(الخوارزمي) يطمع أن يبقى طلاب هذه الثانوية في القمة دوما. قضينا معه ساعات نتبادل الحديث وسرعان ما أفرغ لنا كل ما اكتسبه طوال السنة الماضية، فجأة، رن هاتفي ثم أجبت على والدتي التي كانت تود الاطمئنان عني فتنكرت بزي الطالب السعيد الذي يشعر بالفرحة كونه يخوض غمار سنة جديدة, لم أكن أعرف أن هذه المكالمة ستكون أتعس ما أقوم به في حياتي.
عندما انتهيت من المكالمة، لمح (معاذ) المحمول فطلب مني أن أريه إياه. كانت تلك المرة الأولى، التي يلمس فيها هاتفي المحمول شخص غيري لأن هذا الهاتف كانت له معزة خاصة. كـل منا في لحظة من حياته، يطالب بوجود محمول معه غالبا ليس بهدف التواصل بل بغرض التباهي، الترفيه الذي تحمله الهواتف أخر صيحة، التقاط الصور أينما حللت وارتحلت، تصوير كل اللحظات الطريفة والجميلة، تبادل الرنات.. إلى غيرها من الأهداف التي تبدو للبعض أساسية ومفيدة وتبدو لي تافهة ومضيعة للوقت فمنذ نعومتي أظافري إلى مراهقتي، تم شبابي لم يكن يوما الهاتف المحمول مطمحا لي، شخصان كانا ملحان جدا علي لكي أبتاع محمولا أولهما خليلتي والفتاة الوحيدة التي أحببت في حياتي لكي نتواصل أكثر، ثم والدتي بحكم بعدي عنها ولحبها الشديد لي خرجت يوما بدون علمي وبحثت عن أحدث صيحة في الهواتف المحمولة تم اشترته وأعطته لي كهدية ليكون هذا الهاتف هو أول هاتف في حياتي وهو واحد من الهدايا النادرة جدا التي استلمتها في حياتي، خصوصا أنه كان هدية من أعز مخلوقة عندي لذلك كان عزيز بالنسبة لي وأعشق جدا الحفاظ عليه, لذا لا أستغرب ترددي في إعطائه لـ(معاذ). ما إن أخذه حتى بدأ يتفحصه يمينا ويسارا ويعبث بقوائمه الرئيسية بحثا عن الرنات والألعاب وأيضا المميزات الإضافية, ثم سألني عن ثمنه فقاطعنا صوت الرعد مجددا، صوت الأبواب وهي تركل بأرجل الضباط على الساعة الرابعة صباحا لم نكن نعلم أن “البيزوتاج” سيستمر إلى ساعة مثل هذه لكن في الحقيقة فهم كانوا يخططون لأن يعطونا ساعات قليلة للنوم _ لم تحظى بها غرفتنا _ ثم نعود هذه المرة لنشاط من نوع خاص.
هذه المرة، كان ينتظرونا القيام بحركات رياضية صعبة جدا، ليصبح الأمر عسكريا رسميا وبالرغم من لياقتي البدنية الضعيفة وإحساسي بالكسل والعجز في ممارسة الرياضة إلى أنني استجبت للموضوع بشكل مدهش ولم أشعر بالتعب على الرغم من صعوبة الحركات وقلة النوم لكن هذا لم يمنع جوارحي من أن تشعل الحرائق بداخلي غضبا بينما كان عقلي يقوم بإضرامها وبالرغم من مرور عدة ساعات في الركض، الوثب، القفز، الالتواء يمينا وشمالا، وحركات أخرى إلى أنها لم تكن أطول من الدقائق التي قضيناها عاريين تحت رذاذ الحمام البارد في جو الساعة السادسة صباحا الصقيع. انتهيت من الاستحمام ثم ذهبت رفقة زملائي في الغرفة فتحنا الباب، فإذا بنا نجذ زجاج النافذة مكسور لم نكن نعلم ما يجب فعله حينها خصوصا في وقت مبكرة كهذه لذلك تقبلنا الأمر فقام كل من (أمين) و(محمد) بتعليق ستارة تحجب دخول البرد على سريريهما أمر لا يمكن تحقيقه مع السرير طابق ثاني لذلك قام (عبد اللطيف) بالهرب إلى غرفة أخرى بينما لم أجد حلا فاستسلمت للبرد الذي غمر سائر جسدي وجعل السعال يفترسني أمر منعني من النوم فقضيت الساعتين بأكملها أتحسر وأنتظر دخول القسم مجددا والارتياح من هذا الكابوس.
كم كان جميلا مشهد الخيوط الشمسية الصباحية وهي تعبر النافذة لتدخل إلى بهو الغرفة الضيق وتغازل أعيننا، وأجمل من ذلك السكون الذي يغمر الرواق وأنا ذاهب إلى الحمام أتفحص منظر بعض ممن يخرجون من غرفهم بملابس غريبة وملامح أكثر غرابة، لا يكلم أحدهم الآخر. وكم كان تراجيديا تلقينا خبر غياب أستاذ الحصة الصباحية _ أستاذ الرياضيات _ الحصة الصباحية كانت أمرا مهما بالنسبة لنا، لكونها المجال الوحيد للتزويغ من “البيزوتاج” لأن الضباط لا يحبون الاستيقاظ باكر. في اليوم السالف، حضر جميع الأساتذة منهم من سمح لطلابه بالخروج من أجل تأدية الخدمة ومنهم من رفض ذلك كـ(حنين) لكن الغياب أمر لم يكن متوقعا مما جعلنا فريسة سهلة وشرعنا في العمل أولا وجعلني أتحرق شوقا لرؤية هذا الأستاذ الذي لم يتكبد حتى عناء الحضور. بالرغم من أننا عدنا للأداء من جديد إلى أن ذلك اليوم كان استثنائيا، كنت أستشعر وجود مفاجئة قادمة، مفاجئة أصبحت أقرب عندما قمنا بالاصطفاء من جديد أمام الباب الرئيسي ثم دخل العسكري الموجود في أول الصف إلى مقر الداخلية، مرت بضعة دقائق ثم خرج وشعره نصف حليق ونصف كثيف يمشي مطأطئ الرأس تحت تصفيقات وأصوات قهقهات الطلاب السابقين، ثم دخل العسكري الذي يتبعه إلى أكثر صالونات الحلاقة حماقة التي يمكن أن يدخل إليها المرء.
نحب أن نطلق عليها اسم ‘عقدة نفسية’, تلك النقطة حيث يضعف فيها الإنسان ولا يستطيع التحكم في نفسه عندما يتعلق الأمر بها غالبا نقاط الضعف هذه تنمو انطلاقا من ذكرى أليمة ترسخ بالذاكرة. قد يستغرب البعض عندما يعلم أن نقطة ضعفي هي شعري، ليس لكونه مجعد أو قبيح المنظر وإنما أمقت حلقه تماما وقد اعترضني في حياتي مواقف عديدة لكي أحلق رأسي بالكامل لكنني أبيت. في المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الحلاق لمفردي وبدون توصية سابقة، تكلف بأمري شاب مبتدئ لم يتعامل مع الأمر باحترافية, لكنني وبالرغم من خروجي بشعر “خاطئ الحلاقة” إلى أنني استحملت السخرية من زملائي على شكلي رافضا فكرة أن أصبح أصلع, ذات يوم وأنا أتجول كثيف الشعر نادني أحدهم سائلني إذا ما كنت أود الحلاقة مجانا فرحبت بالأمر قائلا في نفسي: ما أسهل المجان “حاجة فا” لم أكن اعرف أنني داخل على مدرسة حلاقة قام فيها بعض الطلاب بتطبيق كافة التجارب علي وبالرغم من أن شعري أصبح “خاطئا” من جديد رفضت للمرة الثانية أن أضحي بكل شعرات رأسي، في السنة الموالية، لم يتبقى سوى أبي هو من لم يلعب دور الحلاق المبتدئ على شعري لذلك كان تزامن العيد مع غلق صالون الحي وكثافة شعري مناسبة ناذرة ليقوم بقصه حتى أصبح شكلي كالبهلوان لكنني رفضت من جديد أن يقوم بحلقه تماما من أجل تصحيح ما فعل.. وفي المرة الأخيرة التي أدخل فيها إلى مبتدئ يلعب بشعري كان هذه المرة ذلك الضخم الذي لاقني يوم الدخول استسلمت وذهبت لكي أصبح ولأول مرة في حياتي بدون شعر. كانت هذه المرة الأولى أيضا التي أعصى فيها عن فعل شيء لكن تم جريي بواسطة ثلاثة أشخاص بالقوة وحلقت رغما عن أنفي. كان إحساسا غريبا أن أقوم بلمس رأسي ولا أشعر سوى بنعومة الطبقة الجلدية وأرى رأسي في المرآة وهو يبدو كـ”التيمومة” مسطحا و بيضوي الشكل.
أشرقت شمس يوم جديد: يوم الجمعة، وبدأت معه نهاري الأول وأنا أصلع. لم يشغلني بعد وجود أو عدم وجود حصة دراسية لأنني تعودت على الأمر لهذا لم أفاجئ عندما وجدنا الضباط بانتظارنا باكرا وأرغمونا على بدئ الخدمة قبل الذهاب إلى الأقسام حتى, لكن مع أن الأمور كلها مضت بالشكل الروتيني لكل صباح عدا القيام بالخدمة في مكان لا يحمل فيه أحد شعرة في رأسه استمر إحساس غريب بمخالجتي بأن هناك أمر مريب قادم، زاد تأكدي من هذا الأمر عندما أتى أحدهم يعرض علي اتفاق، عرض علي أن أقوم بعمل استثنائي مقابل قسط من الراحة. لم يكن لي إلى أن أقبل فأخذني إلى مكان أبعد عن الناظرين لا يوجد فيه سوى مجموعة من الدلاء المصنوعة من الألمنيوم ومجموعة من طلاب السنة الأولى ليشرح لنا أن العمل المتفق عليه هو القيام بحفر حفرة عميقة. أخذ كل منا دلوا وقام بسحب التراب بكل ما أوتي من قوة لنجعل الحفرة أعمق فأعمق جاهلين تماما ما نحن مقدمين عليه وبعدما أصبحت جاهزة تماما أخذنا قسطا من الراحة، وكم كان إحساسا رائعا وأنت تجلس منشغلا بحاسوبك وألعابك و رفقائك في الخدمة. في هذه الأثناء، أحببت أن أنتهز الفرصة للدخول إلى موقع الاتصال الاجتماعي الشهير والاطمئنان على فتاتي لكنني لم أتوقع تماما أنها تتجاهلني فبالرغم من أن الإشارة توضح أنها متصلة لكنها لم تجب على رسائلي وكأنها غاضبة من أمر ما لم أكن أعلمه آنذاك. فجأة، دخل ضابط ليعلمني أن فترة الراحة قد انتهت وحان دور آخر نشاط بيزوتاجي عندما خرجت توجهت إلى مكان الحفرة فوجدت صفا طويلا منا يرتدون جميعا ملابس داخلية فقط وعليهم أن يقفزوا ويسبحوا في الحفرة المليئة بالوحل _ الحمام الطيني _، لم يكن لي إلى أن أخلع ملابسي وأقفز معهم ما إن صعدت من المسبح حتى قذفوني بكرات من الوحل كما فعلوا مع البقية لكي أصبح بالإضافة إلى أصلع، عاريا و وحليا.
بعد التخبط في موجات الوحل ثم الاستحمام بالماء البارد قام أحدهم بإعلامنا بوجود مفاجئة بعد العشاء، لكن في الحقيقة فالمفاجئة كانت أيضا قبل العشاء لأن الفترة مابين الفطور والعشاء لم يطلب منا أداء الخدمة وحضينا حصريا بقسط كبير من الراحة والدردشة أما بعد العشاء فقمنا بالاجتماع في مكان واحد وأعلن رئيس الضباط عن نهاية فترة البيزوتاج ليتبع زملائه قولا بأنهم يرحبون بنا في أية وقت في حال ما احتاج أحدنا أمرا دراسيا ما, حينها أحسست بارتياح جميل وأنا على علم مسبق بأن الحصة الدراسية ستبدأ بداية الأسبوع القادم رسميا وسنعود إلى أيام الدراسية العادية، لم أكن أعرف حينها أن ما ينتظرني هو عاصفة من المشاكل المتتالية والعذاب النفسي القاتل. عدنا بعد العشاء إلى غرفنا نتبادل الضحكات، أول ما دخلت استلقيت على السرير استلقاء العائد من الحرب وأخذت استرجع اللحظات العجيبة التي أمضيناها هذا الأسبوع وأضحك من شدة حماقة ما كنا نفعل، لا أنكر أن هذا الأسبوع كان له متعة ونكهة خاصتين ففيه من المرح ما يشبع النفس لكنه في نفس الوقت يحمل من الذل ما يشعل الغضب. بخلاصة فهو متعة لطلاب السنة الثانية لكنه عذاب لطلاب السنة الأولى وقد يكون ممتعا لهم أيضا أحيانا. بعد ذلك حدث مالا يمكن توقعه, علمت أن نهاية رمضان كانت تلك الليلة وهذا لا يعني سوى شيء واحد بأنه لا وجود لعطلة بمناسبة عيد الفطر لتزامنها مع نهاية الأسبوع، وأيضا لن أقضي العيد في المنزل لأنه كان علي أن ألبت أول نهاية الأسبوع بالداخلية كي أقوم بترتيب عدة أمور,, لكن ليس هذا ما لم أكن أتوقعه، ففي هذه الأثناء، تذكرت أمرا مهما. تذكرت لماذا لم تشأ فتاتي الرد على رسائلي لقد كانت مستاءة لأنني لم أرد بدوري على رسائلها النصية التي بعثتهم لي عبر الهاتف وذلك لأنني كنت منشغلا بال بيزوتاج لهذا قفزت من السرير وذهبت للبحث عن هاتفي المحمول لأجيبها لم أجده فتذكرت حينما أعطيته لـ(معاذ)، ذهبت بحثا عن غرفته، ثم ذهبت إليه بمجرد أن علمت رقم الغرفة من أحد زملائه، كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها غرفة غيري، لذا كنت مؤدبا فلم أخطو إلا عندما أذن لي، دخلت وسألت عن هاتفي.. رد (معاذ) في تعجب: “ألم أعطيك إياه؟” أجبته ودقات قلبي ترتفع تدريجيا: ” لا، أنت آخر من أخده” ثم قال متذكرا: “آه، نعم لقد وضعته في سرير (أمين)”. ذهبنا لنتحقق لكننا لم نجد شيئا فأدركت حينها دون الاستمرار في البحث أنه تمت سرقة هاتفي المحمول